«مصر تخوض أكبر معركة استقلال وطني منذ أيام عبدالناصر»، يخبرنا ابن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى حوار نشر نهاية سبتمبر الماضي فى جريدة التحرير. لا ينفرد المهندس عبدالحكيم وحده بهذا التقدير. بل أمطرتنا به الصحافة والإعلام وسياسيون ومن يسمونهم بالخبراء الاستراتيجيين منذ 3 يوليو وحتى الآن. وتظهر «الكرامة الوطنية»، و«رفض الإملاءات الخارجية»، و«استعادة هيبة الدولة المصرية دولياً»، جنباً إلى جنب مع صور تجمع عبدالناصر مع وزير الدفاع، كواحدة من الأسس المحورية التى يتم الدفع بها لتدعيم شرعية حكام ما بعد سقوط الإخوان. لكن هذه النبرة لم تنعكس حتى الآن سوى فى التوجه إلى المنح والودائع الإماراتية والسعودية بدلاً من المنح والقروض القطرية والتركية، وفى بعض الحديث الإعلامى المحض عن الاستغناء عن المعونة الأمريكية، أو بعض التوتر «العابر» بين حكومة الببلاوى وبين صندوق النقد الدولي، الذى تحول من «مؤسسة دولية نحن أعضاء فيها ولنا الحق فى قروضها التي تعطي شهادة دولية للعالم» إلى «مؤسسة تابعة للسياسة الأمريكية ولا نقبل منها إهانة لمصر خاصة أننا لا نحتاج القرض»، بينما تعقد اللقاءات والاتصالات لاستعادة الود.
في المقابل، يصمت خطباء وخطاب الاستقلال الوطني، وتتوقف طبول البروباجندا، عندما يتعلق الأمر بقِبلة كل حكومات ما بعد يناير بلا استثناء: طوطم الاقتصاد المعبود، الاستثمار والمستثمرون. فها هي الحكومة كسابقيها تحاول التنصل من أحكام قضائية نافذة بفساد بعض عمليات بيع الشركات لمستثمرين أجانب بحجة مناخ الاستثمار، ومخاطر التعرض لنزاعات التحكيم الدولي التى قد تفرض تعويضات هائلة ضد مصر بسبب هذه الأحكام.
القانون يخسر
السؤال المنطقى هنا: إذا كان إنفاذ القانون ومقاومة الفساد من شروط الاقتصاد الكفء المتطور فكيف يمكن أن تكون الغلبة لأرباح المستثمرين الأجانب (والمحليين الحاصلين على جنسيات أجنبية وما أكثرهم) ومصالحهم بهذا الشكل عندما تتعارض مع صحيح القانون الوطني؟ السبب هو توقيع مصر على عدد هائل من اتفاقات الاستثمار الثنائية تتقدم الترتيب العالمى فيها من حيث العدد.
يقول لنا تقرير مهم للغاية، من إعداد الباحثين المتميزين حاتم زايد وهبة خليل، صادر عن المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل أيام بعنوان «مصر والتحكيم الدولي ــ حماية للمستثمر ولا عزاء للمال العام»، إن مصر ضمن أكثر 4 دول يتم مقاضاتها دولياً من قبل مستثمرين أجانب وأنها تواجه أكثر من 10 دعاوي قضائية منذ قيام الثورة فى يناير 2011. ويؤكد التقرير ما قاله وزير الاستثمار الحالي بأن مصر لديها هذه الاتفاقيات مع أغلب دول العالم بغرض حماية الاستثمار. حيث يتراوح العدد ما بين 69 اتفاقية (تؤكدها هيئة الاستثمار)، و100 اتفاقية بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية والتجارة (الأونكتاد) وأكثر من ذلك بتقديرات أخرى. وتعتبر هيئة الاستثمار المصرية أن التوقيع على هذه المعاهدات من أهم استراتيجيات «تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر».
ويشير التقرير إلى عيوب التحكيم الدولي الذى تفرضه هذه الاتفاقيات والمعاهدات: فتعريف المستثمر فضفاض ومطاط ومؤسسات التحكيم الدولى مرجعيتها فقط هذه الاتفاقيات بتعريفاتها المطاطة. كما تعطي الاتفاقيات ميزة للمستثمر الأجنبى على ذلك الذى لا يحمل سوى الجنسية المصرية، والذى يخضع للقانون المحلي، بينما يتم إعفاء الأجنبي من مقرراته إذا تعارضت مع الاتفاقيات. وبالإضافة إلى أن هذه الاتفاقيات غير شفافة ولا يتم مناقشتها فى الرأى العام، فإن التقاضي بشأنها مكلف للغاية خاصة للدول النامية. وهناك علامات على انحيازها السافر ضد الحكومات لصالح الشركات، فأحكامها نهائية بحكم اتفاقيات الاستثمار. ولا تلتزم هذه المحاكم بإعلان أي تعارض مصالح لدى قضاتها مما يثير شبهات حول انحيازهم للشركات، إذ أن بعضهم يعمل فى حالات أخرى كممثلين للشركات فى قضايا مماثلة. (خسرت مصر 9 قضايا من 11 تم الفصل فيها من قبل المركز الدولى لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID- إكسيد)، التابع للبنك الدولي وكسبت 2 فقط بينما تنتظر 11 قضية أخرى الحكم الآن، يخبرنا التقرير).
ولا تسمح هذه الاتفاقيات للشركات الأجنبية، فقط بتجاوز القانون المحلى والنظام القضائى الوطني في قضايا فساد كأحكام استرداد الشركات التى تمت خصخصتها فى عهد الجنزورى ــ مبارك، وإنما أيضاً قد تتيح لها ردع وإيقاف تعديلات في القوانين تمس مصالحها وأرباحها، فهي لا تقف عند تحرير الأسعار وإلغاء الجمارك «بل أصبحت اتفاقيات تتمحور حول السياسة الاقتصادية المحلية، وتضع شروطاً مجحفة على السياسات العامة، وفي مقدمتها سياسات الدعم وحماية الاستثمار والسياسة الضريبية والسياسات الصناعية»، كما يخبرنا التقرير.
هل يمكن مثلاً أن تكبِّل الشركات الدولية قدرة حكومة وبرلمان مصر على فرض حد أدنى للأجر؟ نعم يمكن. فقد رفعت شركة فيوليا الفرنسية الكبرى، صاحبة تراخيص جمع القمامة فى الإسكندرية والمشاركة في عدد من مشروعات المياه فى مصر دعوى تحكيم دولي تنظر حالياً أمام «إكسيد»، تحتج فيها على خسائرها بسبب رفض الحكومة سداد مستحقاتها (تجمع هذه المستحقات جبراً على فواتير الكهرباء بينما صارت القمامة مع هذه الشركات «الدولية»، أزمة هائلة فى شوارع القاهرة والإسكندرية)، وضد قانون الحد الأدنى للأجر لأنه سيؤثر على أرباحها.
«بالرغم من أن الدول لها سيادة ومن حق أي دولة الاستمتاع بهذه السيادة كاملة، إلا أن مصر وغيرها من الدول قد تخلت بموجب العديد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية عن جزء هام من هذه السيادة»، يعطي التقرير حكمه. «فمصر مجبرة على احترام أحكام تلك المحاكم حتى وإن خالفت أحكام القضاء المصري وحتى إن خالفت أبسط قواعد العدالة».
ليس قدراً محتوماً
تضفي حكومات ما بعد يناير قدسية تكاد تكون دينية على سياسات وتوجهات حكومة نظيف فى أطرها العامة. قد تقدم تنازلا هنا أو هناك كالإعلان عن تطبيق الحد الأدنى للدخل من يناير القادم عند 1200 جنيه، لكنها حتى وهي تفعل ذلك تفك وديعة بمليارات الدولارات لدى المركزى دون نقاش كافي بدلاً من إصلاح هيكل الضرائب الذى ينوء بحمله الفقراء، ثم تسعى لتقليص معنى هذا بحساب التأمينات الشهرية والمزايا العينية ضمن الـ1200. تخرج الحكومات المختلفة في عهد الإخوان وما قبله ومابعده قوانين جمال مبارك من الأدراج واحداً تلو الآخر، والموضوعة خططها فى إطار توجهات ومصالح معروفة. تقدم الحكومة خطة للعدالة الاجتماعية تقول إنها توسعية ثم تعلن عن خفض عجز الموازنة من 14% إلى 10%.
بنفس الإصرار تتعامل الحكومة مع واقع هذا القيد الهائل على العدالة الاجتماعية والديمقراطية فى مصر وكأنه قدر لا يمكن الفكاك منه. هذا القيد نتاج نفس التوجه في السياسة الاقتصادية على مر عقود سبقت ثورة يناير، ولم يكن هذا أمرا محتوماً وليس نهائياً أيضاً الآن. والواقع أن عديداً من الدول بدأت تنتبه لمخاطر هذه الاتفاقيات وتسعى لتحجيمها بطرق عديدة على رأسها عدم تجديد الاتفاقيات التي تنتهي فترتها والتوجه نحو ما يسمى بالاستثمار غير المتعارض مع التنمية وهو جيل جديد من الاتفاقيات يلزم المستثمرين باحترام القانون والحقوق الصحية والبيئية مثلاً. أيضا هناك توجه لإعادة التفاوض على الاتفاقيات القديمة لتعديلها كما أعلنت الهند فى أبريل 2012. ويذكرنا التقرير أن الأرجنتين استخدمت ثغرة قانونية فى ميثاق معاهدة إكسيد تعطي الدولة الحق «أن تشترط على المستثمرين أن ينجحوا أولآ فى تقديم الدعاوي القضائية الخاصة بالاستثمار فى المحاكم المحلية قبل أن تنفذ الدولة سداد التعويضات التي حكم بها المركز الدولي. وهكذا نجحت الأرجنتين فى الهروب من تنفيذ أحكام المحكمة الاستثمارية ضدها بشكل قانوني».
في خطابه أمام الأونكتاد فى سبتمبر 2012، قال روبرت دافيس وزير التجارة والصناعة في جنوب أفريقيا إن بلاده كونت لجنة وزارية للتعامل مع الاتفاقيات بالرقابة على الاستثمار والعلاقات الدولية وقضايا التنمية. «سنسعى لإدراج استثناءات مشروعة لحماية الاستثمار عندما يتعلق الأمر باعتبارات السياسة العامة كالأمن القومى والصحة والبيئة أو عندما يتعلق الأمر بعدم العدالة الموروث تاريخياً أو لدفع التنمية». وفى مصر، تخرس «السيادة الوطنية» وينام «الاستقلال الوطني» ويتنحى القانون والقضاء، إذ تصبح «السيادة» للاستثمار.
[يعاد نشره بالاتفاق مع الكاتب عن جريدة "الشروق" المصرية]